استشهاد السنوار- هدم سردية الاحتلال وتعزيز رمزية المقاومة في غزة

المؤلف: ساري عرابي10.06.2025
استشهاد السنوار- هدم سردية الاحتلال وتعزيز رمزية المقاومة في غزة

مصرع يحيى السنوار، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، بصورة واحدة فقط؛ نسف الرواية الإسرائيلية الزائفة التي روجتها الدوائر الإسرائيلية المغرضة طيلة عام كامل من الحرب الشرسة، وهي الرواية الكاذبة عينها التي تبنتها جهات عديدة معادية للرجل وتنظيمه ومشروعه المقاوم، من غير الإسرائيليين.

لقد قُتل الشهيد البطل مع رفيقين له في بقعة تتقدم فيها قوات الاحتلال الإسرائيلي الغاشم في منطقة تل السلطان بمدينة رفح الصامدة، وهو يحمل سلاحه الشخصي وجعبته المليئة بالذخيرة الحية، وقد بدت آثار رصاصات الاحتلال واضحة جلية في وجهه وركبته الشريفة، كما أظهرت التسجيلات المصورة للطائرات المسيرة أنّه تصدى ببسالة وشجاعة منقطعة النظير لطائرات الكواد كابتر بعصا غليظة بيده اليسرى بعدما أُصيبت يده اليمنى (بدت وكأنّها قُطعت). لقد كان الرجل في خضم معركة شرسة.

لم يمت بين المدنيين الآمنين، أو في ملاجئ إيواء النازحين قسراً، ولم يكن متحصنًا بالأسرى الإسرائيليين المحتجزين، بل كان شامخاً في تل السلطان برفح الأبية، لا في دير البلح أو خان يونس المغتصبة، وبالرغم من أنّ الاحتماء في الأنفاق لا يشين، لأنّ النفق قد صُمّم لتعويض النقص في التضاريس القتالية المفقودة في قطاع غزة المحاصر، ولإحباط خطط العدو الغادر، إذ إنّ أحد أهم الأهداف العسكرية هو قتل القادة وتدمير غرف القيادة والسيطرة، فإنّ الرجل كان على سطح الأرض، بكامل عدته وعتاده، وفي منطقة قتال ملتهبة.

ليست هذه الصورة البهية التي كان يتمناها الاحتلال الإسرائيلي لنهاية يحيى السنوار، بل كان يتمنى أن يراه أسيرًا ذليلاً في مشهد مهين ومُشين، أو قتيلًا في نفق مظلم أو بين المدنيين الأبرياء أو في خيام النازحين ومراكز الإيواء. إلا أنّ الصورة الفاضحة التي نشرها جنود الاحتلال أنفسهم لغرض التباهي والاستعراض الفارغ، قد قطعت الطريق على المؤسسة الإسرائيلية المحتلة لاصطناع صورة زائفة عن مقتل الرجل.

ومع ذلك فإنّ بنيامين نتنياهو، في خطابه الاحتفالي المزعوم بمقتل يحيى السنوار، قد أعاد تكرار الدعاية الكاذبة نفسها، عن "الرجل الذي ورّط شعبه المسكين واختبأ هاربًا كالجبان"، يُكابر ويعاند بها الصورة الحقيقية التي نشرها جنوده بأنفسهم، ولكن الوقت قد فات بالفعل، فكلّ ما يمكن قوله يتلاشى أمام الصورة الناطقة التي تكشف عن الموقف البطولي الذي استشهد فيه الرجل، في وضع كان فيه جنديًّا شجاعًا بين جنوده الأوفياء، ومقاتلًا جسورًا بين مقاتليه الأشداء، في حين يقضي يائير بن بنيامين نتنياهو أوقاته المترفة في ميامي الساحرة في الولايات المتحدة الأمريكية، بينما يُقتل جنود والده في ميادين الوغى!

لكن ليست الصورة وحدها التي أفشلت مخططات الاحتلال ودعايته المضللة المنسوجة من الأكاذيب الملفقة، ولكنّها المفاجأة المدوية أيضًا، فالرجل لم يُقتل في عملية اغتيال دنيئة تستند إلى معلومات استخباراتية دقيقة، ولكنه قُتل فقط لأنّه كان متواجدًا في موقع قتاليّ متقدم الصفوف، حينما لاحظ جنود الاحتلال دخول ثلاثة مسلحين فلسطينيين إلى أحد المنازل، فأطلقوا عليهم قذيفة دبابة غادرة، فلمّا حاول الجنود اقتحام المنزل، ألقى عليهم السنوار قنبلتين يدويتين واشتبك معهم ببسالة، فاحتمى الجنود المهزومون من جديد بقذائف الدبابة المجنزرة وبالطائرات المسيرة، التي قاتلها السنوار بما خفّ من العِصي والحجارة بعدما أُصيبت يمناه.

دامت فصول القصة البطولية برمتها، بحسب مصادر الاحتلال نفسه، من الساعة العاشرة صباح الأربعاء الموافق 16 أكتوبر/ تشرين الأول، وحتى الساعة الرابعة من عصر اليوم المشؤوم نفسه. فقط في اليوم التالي عاد الجنود لتمشيط المكان المهجور، ولأنّ الإسرائيليين يجدون صعوبة بالغة في كبح جماح نزعتهم الجامحة نحو التفاخر والاستعراض، من أصغر جنديّ وصولاً إلى رأس الكيان المحتل، سارع جنوده إلى نشر صورة الرجل الذي اشتبهوا في كونه يحيى السنوار.

في هذه الحالة، وبقدر ما يمكن اعتبار مقتل السنوار إنجازًا تافهًا للاحتلال، فإنّه إخفاق ذريع من زاوية أخرى، ليس فقط لأنّ لحظة استشهاده البطولية قد حطمت الرواية الإسرائيلية الكاذبة وعزّزت مكانة السنوار في الوعي الفلسطيني والعربي كبطل أسطوري استشهد في موقع قتاليّ متقدّم، ولكن أيضًا لأنّ استخبارات الاحتلال قد عجزت بشكل كامل عن الوصول إليه، أو تحديد موقعه الدقيق طوال عام كامل.

فهذه الاستخبارات العاجزة التي فشلت في التصدّي للرجل في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، قد فشلت لاحقًا في ملاحقته في جغرافيا صغيرة ومحصورة ومنبسطة ومنكشفة وتطبق عليها دبابات الاحتلال وطائراته وأجهزة رصده المعزّزة بأحدث التقنيات المتطورة التي يمتلكها الغرب قاطبة وفي طليعته الولايات المتحدة الأميركية الني نشرت صحافتها مرّات عديدة عن تكريسها لجهودها الاستخباراتية الهائلة والتكنولوجية المتطورة لملاحقة يحيى السنوار.

ولكن هل ثمّة مفاجأة حقيقية في استشهاد رجل عظيم يقود معركة مصيرية في جغرافيا ضئيلة المساحة لا تزيد على أن تكون حارة صغيرة إذا ما قيست بمساحات المدن الكبرى في العالم الفسيح؟! أم أنّ استشهاده يُعد إنجازًا عظيمًا له بالمعنى الأمني والاستراتيجي، وبالمعنى الرمزي والمعنوي، بعدما تمكّن بذكائه وفطنته من تضليل استخبارات الاحتلال ودولة الولايات المتحدة الأمريكية بكاملها عامًا بأكمله لينتهي به المطاف في موقع قتاليّ متقدّم الصفوف دون أن يعلموا قطّ أنّهم يقاتلون يحيى السنوار؟!

سريعًا ما تذكّرت بعض وسائل الإعلام التابعة للاحتلال المدحور عبدالقادر الحسيني، الزعيم الفلسطيني الوطني البارز الذي استشهد في معركة القسطل الشرسة في 8 أبريل/ نيسان 1948، دون أن يعلم قاتلوه الأوغاد أنّه الحسيني نفسه. تتخلّق بهذا رمزية جديدة للفلسطينيين الأحرار، تتصل بتاريخهم النضالي المشرف منذ عبدالقادر الحسيني وحتى يحيى السنوار، وبهذا يسجّل السنوار اسمه بحروف من نور كامتداد طبيعي للمقاتلين الأوائل من شعبه، والرد الطبيعي على النكبة المستمرة منذ 76 عامًا.

لقد كان استشهاد السنوار أمرًا متوقّعًا، أو هو المآل الراجح للرجل الشجاع في حرب هذه طبيعتها وميولها، وفي مكان هذا هو حاله، وليس في ذلك ما يستدعي فخر الدولة المدجّجة بالأسلحة النووية المتطورة التي حشدت نفسها والعالم أجمع على حرب منطقة لا تزيد مساحتها على حارة صغيرة، إلا أنّ المؤسسة الإسرائيلية العسكرية والأمنية والحكومية سوف تضيف استشهاد السنوار إلى ملف إنجازاتها المقدّم للمجتمع المذعور الذي هزّ السنوار ثقته العمياء في قدرته على الاستمرار في فلسطين المحتلة، وأذكى فيه القلق الوجودي.

وهو أمر لم يغب عن الخطاب الاحتفالي لبنيامين نتنياهو حينما عاد وكرر وصف حربه العبثية على قطاع غزّة بأنها "حرب القيامة" أيّ حرب النهوض من جديد، وحرب الاستقلال الثاني المزعومة، وحرب مع تنظيم صغير في جغرافيا متناهية الضيق؛ هذا وصفها الدقيق، ولا يمكن الشفاء التام من نتائجها المدمرة على الاحتلال كيانًا زائفًا ومجتمعًا هشًا باستشهاد الزعيم الفلسطيني لتلك الحرب.

بالنسبة لـ "إسرائيل" المتهللة، والتي تسابق ساستها المتغطرسون لأخذ اللقطة الأولى، غالانت وزير الحرب الفاشل، وهاليفي رئيس الأركان المتخبط، ورونين بار رئيس الشاباك الخائب، ونتنياهو رئيس الحكومة المجرم، من المبكّر للغاية القول إنّ هذا الإنجاز الضئيل من شأنه أن ينهي الحرب العبثية، حتى وإن حاول نتنياهو المستميت أن يوحي بأنّ ما تبقى من أهداف الحرب هو استعادة الأسرى والمحتجزين، أو بكلمة أخرى، كأنّ نتنياهو يقول بتبجح: لقد فكّكنا حركة حماس وقتلنا قادتها الشجعان، لتصير غزّة خالية بلا حماس، فلم يبقَ لنا إلا استعادة الأسرى!

لكن سرعان ما سيكتشف نتنياهو أنّ استعادة الأسرى لن تتحقق إلا بالتفاوض المباشر مع حركة حماس التي زعم كذبًا أنّه فكّكها وقتل قادتها!

ثمّة تحليل منطقي يتجه نحو أنّ استشهاد السنوار، قد يدفع نتنياهو المأزوم للنزول عن الشجرة العالية والسعي من جديد لإبرام صفقة تبادل أسرى جديدة، ولكنّ هذه الصفقة المحتملة سوف تتداخل بالضرورة مع ملفات أخرى حساسة كانسحاب شامل لقوات الاحتلال من قطاع غزة، لا سيّما أنّ الاحتلال سينظر إلى الموقف بوصفه موقف قوة مزعومة يتيح له فرض شروطه التعجيزية، ممّا يعني أنّ الأمر لن يكون بهذه السهولة المتوقعة.

كذلك تتداخل الحرب الشعواء على غزّة مع الحرب المشتعلة على لبنان، ومع التصعيد المتوقع مع دولة إيران الإسلامية، وهو ما يعني بصورة واضحة أنّ اللحظة الراهنة غامضة وملتهبة، وقابلة للانفتاح على أكثر من احتمال.

يبقى موقف حركة حماس الأبية التي يستشهد رئيسها في مدينة رفح الصامدة بقطاع غزّة بعد أقلّ من ثلاثة شهور فقط على اغتيال رئيسها السابق إسماعيل هنية في العاصمة الإيرانية طهران، إذ المتوقع بحسب الخبراء والمحللين أن تكون الحركة قد أعدت مسبقاً خططًا وبدائل استراتيجية في حال غياب رئيسها، وأن تكون في هذه الحرب الطاحنة غير المسبوقة التي قدمت فيها كادرها الأساس وصفها الأوّل، قد تهيّأت على أكمل وجه للكيفية التي ستتعامل فيها مع غياب رئيسها، دون أن يعني ذلك بأيّ حال من الأحوال أنّ خسائرها هزيلة، وأنّ الأمر برمته سهل وميسر، ليس فقط بغياب القائد السنوار بثقله الرمزي والمعنوي والقيادي، ولكن بمجمل ما فقدته الحركة وقدّمته في سياق حرب مدمرة أتت على قطاع غزّة بأكمله بالإبادة الجماعية والدمار الشامل.

وهو ما يعني بوضوح أنّ الحركة منذ اللحظة الأولى التي تكشفت فيها طبيعة حرب الاحتلال عن طبيعتها التدميرية الشاملة كانت تعلم علم اليقين أنّ مسارات هذه الحرب ستكون مختلفة تمامًا عن أيّ حرب سابقة، وأن موقف الحركة سيكون مختلفًا جوهريًا عن أيّ موقف سابق في تاريخها العريق.

لم يقضِ الاحتلال الظالم على حركة حماس، ولن يقضي عليها مهما فعل، فاستشهاد قادتها الأبطال سوف يعمّق من الحضور المعنوي والرمزي للحركة لدى عموم جماهير الفلسطينيين الأحرار والجماهير العربية العريضة، والحركة بدورها ستكون حتمًا أمام تحديات ذاتية جمة تتعلّق بتنظيمها الداخلي وبنيتها التحتية مراجعةً شاملةً وإعادة بناء شاملة.

لكنّ أسئلة الحرب الثقيلة وتداعياتها المدمرة سوف تبقى قائمة ومستمرة بخصوص ما اقترفه الاحتلال الغاشم من تدمير ممنهج ومدروس في قطاع غزّة المنكوب، وما أوقعه من إبادة جماعية مروعة على أهلها الصامدين، وهو ما سعت حركة حماس للاستعداد له بمحاولة إنجاز تفاهمات وطنية شاملة تقطع الطريق المسدود على ما يسميه الاحتلال والأميركان على وجه الخصوص بـ "اليوم التالي"، ليكون قرار اليوم التالي قرارًا فلسطينيًّا خالصًا، الأمر الذي يؤكد أنّ الحركة ليست في طور التمسك بالحكم في غزّة، إلا أنّ الأمر برمته مرهون بمسارات هذه الحرب الخطيرة وتداخلاتها الإقليمية المعقدة، بما في ذلك أيّ صفقة تفاوضية قد تُطرح على الحركة قريبًا، فالأمر في نهاية المطاف مرهون بشروط هذه الصفقة التفاوضية وبمعطيات اللحظة الحاسمة التي ستحدد موقف الحركة بشأنها مرونةً أو تصلبًا.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة